منذ أن تفتحت مداركها على الحياة وهى تتطلع بشغف بالغ لمن يكبرها سنا .. عادة قد درجت عليها ولازمتها لاحقا في حياتها.. لم تجد تفسيرا غير أنها حُرمت من والدها مبكرا.. ولم تكن والدتها على قدر من ضبط انفلات لجام تفكيرها في سن مراهقتها الأولى.. فكانت تشاكس صاحب الدكان .. وبائع الحلوى المتجول بين أزقة الحارات.. وهذا بائع الفلافل والفول لم يسلم من نظراتها وكلماتها المازحة بشكل يثير الاستهجان من هول اندفاعها وجرأتها..كانت مولعة بتقصير شعرها بشكل ملحوظ تحاول التشبه بأقرانها من الصبية الذكور .. لكي تلعب معهم ألعابهم بحرية تامة ..تاركة العاب البنات المتميزة.. هكذا أخبرت أختها الأصغر منها سنا ..عندما جمعتني بها الصدف لاحقا عن طريق أحد الأصدقاء ..
مضت سنوات حتى تعدت الأربعين من عمرها وهى لا تزال على عاداتها الأولى ..حيث ركزت من جنونها المضطرب نحو كبار السن خاصة فهي عقدتها منذ الصغر.. تلهو وتعبث بأفكارهم وجلهم قد تخطى الخامسة والستين.. تمارس عليهم هوايتها سالفة العهد .. تستجمع قواها وتنشط ذاكرتها .. لاهية مستخفة بعقولهم وقلوبهم الضعيفة المتلهفة لماضي قد مضى..فهي مراهقتهم المتقدمة في سن الشيخوخة .. و محاولات يائسة لاسترجاع سنون وعقود ولت بلا رجعة ...
حاول صديقها جاهدا وفى كثير من المواقف .. تارة بإسدال النصح لها بطريق غير مباشر بداية فلم يشأ أن يجرح شعورها .. لكنه انعطف معها إلى طرق أكثر مباشرة ووضوح.. فاشتكت من قسوته مرارا وتكرارا غير آبهة إلى أن الصديق الصدوق هو من لا يصفق نفاقا.. أو يدارى على عيوب صديقه مجاملة له .. لكن نوال أبت أن تبدل أو تغير ما في عقلها من تشويش يزداد معها كلما تقدم بها العمر.. دون أن تفسح لعقلها مجالا أن يأخذ حقه.. رأفة بها وبمن حولها من كهول مراهقين.. وصديق يريد لها الخير..
في وقت متأخر من صداقتها معه .. تبين له بان صبره عليها نابع من شفقة على ما آلت اليه حالها .. ومحاولاته المستمرة في إصلاحها وإعادتها إلى رشدها دون فائدة.. فقد تحولت أفكارها إلى ما يشبه الهرطقات في معظم الأحيان ..انه المرض المعاصر الذي يكتنف كثير من اللذين امتهنوا حرفة الكتابة المأجورة كنوع من الكسب السريع ..ولو أدى ذلك إلى تحولهم إلى صنف كاذب ومخادع تنعكس على مجريات حياتهم اليومية .. فيعانى منهم الأقربون كاسرهم وزوجاتهم وأصدقائهم .. كان مازن كلما سمع صديقه يتلو عليه من نبأ أولائك المهرطقين .. تلك الثلة التي التفت حول صديقته فأصبحت مثلهم .. تقتبس منهم أراجيفهم التهريجية دون تفكير أو تمعن بما يكتبونه.. أو بما تشيعه عنهم من تزوير للحقائق والأراجيف.. بل ويزداد مرضها اتساعا وانتشارا عبر بثها ونشرها لمزيد من هرطقات وخرفنات كبار السن .. من اللذين ارتضوا على أنفسهم الكسب السريع بالكذب والنفاق وتلفيق الحقائق وبالشتم والسب واللعن لمن هم أكبر منهم شئنا واعتبارا ورمزية.. مرض من أخطر ما يكون على الإنسان في نهايات عمره ..سينعكس حتما وبشكل سلبي على من حولهم من المقربون .. فتكون الخطيئة الكبرى المرتكبة في حياتهم دون وازع ضمير لعواقب هرطقاتهم على أعز الناس.. وما يمتلكون دون اكتراث أو حسبان .. وهنا الطامة الكبرى لهم في دنياهم وآخرتهم فهم نوع من أنواع المنافقين..
كانت تعلو وتزداد وتيرة ابتسامته .. حتى تتحول إلى ضحكات شبه مرتفعة .. لم يستطيع لجمها مهما حاول حتى لا يستفز صديقه المتحدث .. فهي ما تزال احد صديقات صديقه من عالم حواء .. يخشى عليها عواقب أفعالها.. بأن يصيبها مس من فراغ الذهن .. وعدم القدرة على التمييز لاحقا ..جراء تناقضات الأفكار المتداولة في أزمنة متقاربة.. وسوء انحطاطها وتفاعلاتها المعكوسة تماما في أفكار تتبدل حسب الظروف السائدة .. التي لا يحكمها مبدأ ولا أخلاق.. كان يخشى عليها من نوبات متقلبة مزاجها ..من حالات فقد لمصداقيتها أمام نفسها أولا والآخرين ثانيا .. فتبدوا سخافاتهم وتتجلى مصائبهم فتنعكس عليها بأكثر حدة .. وهنا ستكون العواقب غير محمودة على أسرتها وأعصابها ونفسها في ما تبقى من سنوات عمرها القادمات.. كيف لا وهى صديقته المميزة..
في يوم كان متوقعا.. أرسل صديقه في طلبه حالا .. فهو يريده في أمر عاجل .. لملم أغراضه على عجالة .. ورتب أوراقه المبعثرة على مكتبه وانطلق قاصدا دعوة صديقه ..كان ينتظره أسفل بوابة حديقة المنزل .. وبسرعة يكتنفها اللهفة اقتاده إلى غرفة الجلوس المطلة مباشرة على أشجار الزيتون والحمضيات التي تملأ الحديقة .. فور جلوسهم بدأ صديقه بتحضير غلاية القهوة على موقد السبيرتو .. الذي أهداه له أحد زملاء الدراسة من وقت ليس بالبعيد .. تحديدا عندما اشتدت أزمة الحصار وفقد غاز الطبخ .. وقد زادها ملعقة من الهيل لتفوح منها روائح قهوة مشهية.. سال لعاب مازن على اثر ذلك.. فأشعل على الفور سيجارته ..وهم بتناول فنجان القهوة فقد استسلم لرائحتها النفاذة التي لا تقاوم.. ارتشف منها رشفته الأولى .. وشهق دخان سيجارته ..فتوهجت بحدة كقطعة من الجمر .. كان الصديق يرمقه بعناية قبل أن يبدأ في حديثه ..ثم انهال عليه بسؤال مفاجئ : هل تعتقد يا صديقي باني قد أصبحت مريضا بالهرطقة؟.. ضحك مازن بمجرد سماع تلك الكلمة فهي تتردد كثيرا هذه الأيام بالذات .. نتيجة إلى كثير من التقلبات السياسية التي تغزو الأقلام المأجورة .. و تنتشر كالنار في الهشيم في كافة وسائل الإعلام المضللة في المنطقة...
نفخ مازن دخان سيجارته في الهواء كمدخنة قطار بخارى.. وارتشف رشفته الثانية من فنجان القهوة الرائعة.. وبدأ يستمع إلى صديقه الذي أرسل بطلبه بشكل عاجل وفوري ..وكأن الأمر لا يحتمل تأخيرا أو إرجاء لمقابلة عادية تحدث بينهما .. وبعينين محدقتين قد برز بياضهما .. وبحركات عصبية من أصابع يديه .. وتقاسيم جادة ارتسمت على وجهه ..أعاد على صديقه السؤال : هل أنا مهرطق؟؟ أجابه مازن: بلا.. أصر صديقه على قوله .. فأردف ضاحكا مقهقها يا صديقي أتعلم بان المهرطقين لفظ ينحدر من العصور الوسطى في أوروبا حيث كانوا يتعرضون للحرق بصفتهم شاذون عن تعاليم الكنيسة ورهبانها .. فيكفرونهم باتهامهم بالهرطقة .. ونحن هنا لسنا بصدد استعارة هذا اللفظ الشنيع .. وإلصاقه بك عنوه فأنت لا تبدوا لي كذلك .. أجابه بإصرار وعند وكأنه مقتنع تماما: لا.. بل أنا كذلك !! ..